بردى Barada نهر دمشق وواحتها ومصدر حياة أهلها وزرعها وضرعها. عرفه اليونان القدماء بنهر «خريسورواس» أو نهر «بردنيس»، وذكرته كتب التاريخ القديم باسم نهر أبانه. وأسهبت كتب التراث في الحديث عنه. ومن أسمائه «البريص»، قال عنه ياقوت: «أعظم نهر بدمشق.. مخرجه من قرية يقال لها قَنْوا من كورة الزبداني..» ثم يسهب في ذكر فروعه، وماقيل فيه من شعر. ويذكر القلقشندي بردى فيقول: «ومسقى دمشق وبساتينها من نهر يسمى بردى.. أصل مخرجه من عينين: البعيدة منهما دون قرية تسمى الزبداني، ودونها عين بقرية تسمى الفيجة..». وينتهي بعد أن تنصب إليه فضلات أنهر دمشق إلى بحيرة المرج (العتيبة).
بردى نهر جبلي ـ سهلي ينبع من حضيض جبل «الشير منصور» المطل على حوض الزبداني من جهة الغرب، من عدد من العيون تجتمع مياهها في بحيرة صغيرة يسمونها «نبع بردى». على ارتفاع 1115م فوق سطح البحر، جنوب مدينة الزبداني بنحو 7 كيلومترات. وهو ينبوع كارستي ينبجس من الصخور الكلسية، الجوراسية العمر. ومن الينبوع يسير النهر جهة الشرق فالشمال الشرقي فالجنوب مسافة 8.5كم في سهل الزبداني. وعند موقع التكية يدخل النهر مجراه الجبلي، حيث يحفر واديه العميق والضيق بين التكية ونهاية خانق الربوة، بوابة دمشق الغربية، على مسافة 25كم تقريباً بعرض لايزيد على كيلومتر واحد. أما انحدار هذا القسم الجبلي من مجرى بردى فكبير يراوح بين 13و15بالألف. وسرعة الجريان فيه تتباين بين 0.5- 1م/ثا في موسم الشح و2- 2.5م/ثا في موسم الفيضان.
يسير نهر بردى في المنطقة الجبلية قاطعاً مجموعة من البنيات الالتوائية لجبال لبنان الشرقية، آخرها بنية التواء جبال قاسيون والمزة وعنتر، ويرسم فيها تعرجات متعمقة كثيرة على امتداد محور عام شرقي ـ غربي بين التكية وعين الخضراء، ثم على محور متجه جنوباً وجنوباً شرقياً متعرجاً أيضاً من قرية «بسيّمة» حتى مخرجه من خانق الربوة. ويكون النهر ذا طبيعة جبلية ومياه صاخبة هادرة في موسم الفيضان، وخاصة في كثير من مواقع السقطات والجنادل، حيث تتشكل شلالات صغيرة.
لا يكاد بردى يغادر الجبال حتى تهدأ سرعة مياهه بدخوله أرض حوضة دمشق بغوطتها ومرجها، حيث ينبسط السطح مع انحدار لطيف عام لا يزيد على 2.6- 3بالألف على مسافة 36كم ونيف. ويكون المحور العام لمجرى النهر من الغرب نحو الشرق مع تعرجات وأكواع meander نهرية صغيرة، وانحرافات بسيطة عن المحور العام، تكثر على جوانبه التفرعات، كما تسايره على جانبيه قنوات شبكات الري المتفرعة عنه والمنتشرة في الحوض وبساتينه وحقوله ومزارعه كالشرايين. وينتهي بردى في مايعرف ببحيرة العتيبة، وتعرف بالبحرة أيضاً. وفي التسميتين مبالغة لا تتفق مع الواقع (في الوقت الحاضر على أقل تقدير). لأن ما كان يسمى قبل خمسة عقود بحيرة تحول اليوم إلى مستنقع لاتصل إليه مياه بردى في كثير من السنوات فيجف، ليعود فيستقبل مياه فيضان النهر في بعض السنوات المطيرة.
تغطي بحيرة العتيبة مساحة لا تزيد على 6كم2، وقد جفت تماماً عام 1955 حتى شتاء 1967/1968، ثم عادت مستنقعاً يجف تارة ويمتلئ أخرى وهكذا دواليك. وهكذا فإن نظام بردى المائي هو نظام الأحواض المغلقة التي لا تصرف مياهها إلى البحار المفتوحة.
يقع نبع الفيجة Figeh spring في بلدة «عين الفيجة»، إحدى البلدات الواقعة على طول مجرى وادي نهر بردى وعلى بعد 18كم شمال غرب مدينة دمشق بمنسوب يزيد قليلاً على 823م فوق سطح البحر. يمتد الحوض الصباب لهذا النبع على طول الحدود السورية اللبنانية مغزلياً بعرض نحو 12كم وطول60كم تقريباً فوق سلسلة جبال لبنان الشرقية، وذلك من موقع النبع في بلدة الفيجة أخفض نقطة بالاتجاه الجنوبي الغربي للحوض، وباتجاه الشمال الشرقي حيث تصل بعض القمم الواقعة في الحوض الصباب إلى ارتفاع 2629م فوق سطح البحر.
يحدُّ الحوض الصباب من الغرب بلدات «مضايا» و«بلودان» و«سرغايا» و«بعلبك»، ومن الشرق «حلبون» و«رنكوس» و«عسال الورد»، ومن الشمال «قارة». وتقع ضمن هذا الحوض قريتان صغيرتان هما «هريرة» قرب مضايا و«إفرة» قرب الفيجة.
يتحد نبع الفيجة مع نهر بردى عند قرية «الفيجة» مكوّناً الرافد الرئيسي لبردى إذ تصل غزارته إلى ضعف غزارة نهر بردى تقريباً مما جعل هذا النبع ومنذ القِدم يهبُ باتحاده مع نهر بردى الحياة إلى دمشق التي تمثل أقدم عاصمة مأهولة في العالم.
لمحة تاريخية
عرف الأقدمون أهمية نبع الفيجة وجودة مياهه وعذوبتها فاتخذوه مكاناً للعبادة بدليل وجود معبد روماني فوق النبع، هو المعروف تاريخياً باسم (حصن عزتا). وما زالت بعض أجزاء هذا الحصن باقية حتى اليوم في الجزء الشمالي لموقع النبع حيث تتوضع الحجرة المقدسة التي كانت تقدم عليها القرابين، وحيث كانت تقام الصلوات تحت المياه، وهي تظهر للعيان فقط عندما تخف غزارة النبع في فصل الخريف من كل عام، فتمر المياه من حولها عبر المقاسم التي تخرج من فوهات تنتشر في أسفلها وتندفع المياه منها نحو القناة الأثرية التي تنقل مياه نبع الفيجة الى دمشق منذ القرون الأولى. وآثار هذه القناة ما زالت ماثلة في سفح الجبل في بلدة «بسيمة» من وادي بردى على بعد نحو 3كم عن الموقع الحالي للنبع. ويدل مقطع هذه القناة على أنها كانت منذ العصر الروماني تستطيع نقل ما لايقل عن 1م3/ثا من المياه إلى سهول «الضمير» الواقعة على بعد نحو 25كم إلى الشرق من دمشق.
ولاتزال آثار شبكة المياه التي مُدَّت منذ أكثر من 4000 عام من نبع الفيجة إلى نهر بردى قائمة، وكانت توزّع المياه على مدى عصور متلاحقة على المنازل والسبلان والحمامات العامة بوساطة قساطل من الفخار تمتد من المآخذ إلى نقاط التوزيع. ويجري هذا التوزيع بوساطة هدارات بأطوال مختلفة وفقاً لحصة كل مستفيد، وكانت نقاط التوزيع هذه تسمى الطوالع
نُفّذ أول مشروع لجر المياه من نبع الفيجة إلى مدينة دمشق عام 1908، في نهاية الحكم العثماني في عهد الوالي التركي ناظم باشا، وذلك بعد أن اجتاحت مدينة دمشق عام 1907 جائحة فتاكة من الهيضة (الكوليرا) الآسيوية أهلكت عدداً كبيراً من سكانها. ومُدَّ آنذاك أنبوب لجر المياه من نبع الفيجة بقطر250مم إلى خزانين قد أُنشئا، الأول هو خزان ظبيان سعة 500م3 ومنسوبه 760م عن سطح البحر، والثاني خزان العفيف بسعة 2000م3 ومنسوب 720م عن سطح البحر. يقع كل من الخزانين على سفح جبل قاسيون في منطقة المهاجرين، وتُوزع منهما المياه إلى 400 سبيل منتشرة في أنحاء المدينة تجري فيها المياه يومياً بمعدل ساعتين في الصباح والمساء تكاد تكفي الحاجات الأساسية لشرب السكان.
وبقي الأمر على هذا النحو حتى قامت مجموعة من سكان مدينة دمشق بتأسيس لجنة عين الفيجة برئاسة لطفي الحفار[ر]عام 1924، إذ تمكنت من جمع المبالغ اللازمة من سكان المدينة عن طريق شراء حقوق ارتفاق بمبلغ 30 ليرة ذهبية عثمانية للمتر المكعب الواحد وفي 3آب1932أُنجز المشروع بأيدٍ سورية، وذلك في أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية، وبتكلفة وصلت إلى 271.737 ليرة ذهبية عثمانية. ومع توسع رقعة المدينة ونموها تتالت مشروعات توسيع شبكات مياه نبع الفيجة حتى اليوم موفِّرةً لمدينة دمشق المياه النقية من نبع الفيجة لتغطية الجزء الأكبر من استهلاكها على الرغم من تزايد عدد السكان الذي زاد على 3 ملايين نسمة عام 2004.
طاقة النبع وسماته الهدرولوجيولوجية
نبع الفيجة هو المصدر الرئيسي لمياه الشرب لمدينة دمشق. يصل إنتاجه السنوي إلى نحو 200مليون متر مكعب، إلا أن غزارته تختلف بين فصل الربيع (موسم الفيضان) وفصل الخريف (موسم التحاريق)، وكذلك بين السنين الجافة والسنين الخيرة، إذ وصلت الغزارة القصوى في السنين الخيرة إلى أكثر من 20م3/ثا، في حين وصلت الغزارة الدنيا في سِنِيِّ الشّحّ إلى 2م3/ثا فقط. وتصل حاجة سكان مدينة دمشق حالياً إلى ما يزيد على 7م3/ثا وسطياً.
تصل مساحة الحوض الصباب للنبع إلى نحو 700كم2. تنتشر الصخور الرسوبية المتشققة والمسماة بالصخور الكارستية في معظم هذه المساحة مشكلة البنية الأساسية للحوض الصباب للنبع. تحتوي هذه البنية على مسامات وصدوع وأخاديد تخزن المياه، وتمتاز بنفوذية كبيرة تصل إلى نحو70% من المياه الثلجية الهاطلة على الحوض التي تقدر في السنوات المتوسطة بحدود 610مم. ويعود أصل هذه الصخور في مجملها إلى تشكيلات Génomanien -Turonien من الحقبة الجيولوجية الكريتاسية تحيط بها صخور مكونة من المارن الطباشيري غير النفوذ من تشكيلات الـSénonien التي تحفظ المياه المجمعة في الصخور الكارستية وتمنعها من التسرب إلى خارج الحوض فتتجمع طبيعياً لتخرج نقية عذبة من فوهة النبع في بلدة الفيجة.
عذوبة نبع الفيجة ونوعيته :
يتمتع الحوض الصباب لنبع الفيجة بوقوعه بين قمم الجبال التي ترتفع حتى 2600م عن سطح البحر مما يجعل معظم الهطل فوقه في فترة الشتاء ثلجياً، كما يجعله بعيداً عن المناطق المأهولة ومصادر التلوث. كذلك فإن البنية المتشققة للصخور المكونة لهذا النبع تسمح بتسرب كمية كبيرة من المياه الهاطلة بسرعة إلى باطن الأرض حاملة معها البرودة والنقاء مشكّلة مصدراً استثنائياً للمياه من حيث العذوبة والغزارة.
لاتزيد درجـة حـرارة مياه نبع الفيجة على 13درجـة مئوية ويصل مجموع الأمـلاح فيها إلى 170ملغ/ليتر (المواصفات الخاصة بمياه الشرب تسمح بنسبة أملاح تصل إلى 1000ملغ في اللتر). وتصل القساوة الكلية Hardness لمياه نبع الفيجة (أي مجموعة كربونات الكلسيوم والمغنزيوم) إلى 16درجة فرنسية (في حين تسمح مواصفات مياه الشرب بالوصول إلى50 درجة فرنسية).
وللحفاظ على جودة هذه المياه الطبيعية الفريدة ونقائها بمواصفاتها أُصدر القانون رقم/10/لعام 1989 الخاص بحماية حوض نبع الفيجة بهدف الحد من انتشار أي نشاطات بشرية يمكن أن تؤدي إلى تلوث مياه الحوض الصباب والإضرار بالبيئة المحيطة به، لمساميته العالية التي من الممكن أن تنقل الملوثات بسهولة إلى أعماق الحوض فتضرّ بهذا المصدر الطبيعي الفريد من نوعه الذي يكوّن أحد أُسُس دوام الحياة في مدينة دمشق.
المناطق المستفيدة من نبع الفيجة
يعدُّ نبع الفيجة بموقعه قرب مدينة دمشق، وارتفاعه الكبير عن سطح البحر، مصدر مياه الشرب الرئيسي لهذه المنطقة الواقعة على ارتفاع وسطي قدره 700م تقريباً عن سطح البحر. كما تستفيد من مياهه لأغراض الشرب قرى وادي بردى الواقعة على مسار مجراه، التي تتمتع بحقوق ارتفاق على مياهه، وهي بلدات «الفيجة» و«عين الخضرة» و«بسيمة» و«أشرفية الوادي» و«جديدة الوادي» و«جمرايا» و«الهامة» و«قدسيا».
أما الري فما زالت معظم المناطق الواقعة في الغوطة الشرقية و«داريا» تستفيد من فائض مياه نبع الفيجة السنوي، الذي يتجاوز وسطياً 30 مليون متر مكعب في أثناء فترة الربيع. تخزن هذه المياه في الطبقات الحاملة الجوفية في سهل الغوطة وتستخدم للرِّي في فصل الصيف.